تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية

20 شباط/فبراير 2018
بيروت، لبنان



كلمة الدكتور محمد علي الحكيم
وكيل الأمين العام للأمم المتحدة
والأمين التنفيذي للجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا - الإسكوا
في مناسبة اليوم العالمي للعدالة الاجتماعية
بيروت، 20 شباط/فبراير 2018
معالي السيد بيار أبو عاصي، وزير الشؤون الاجتماعية في الجمهورية اللبنانية،
أصحاب المعالي والسعادة،
الحضور الكريم،

العدالةُ الاجتماعيةُ قيمةٌ قديمةٌ، قدمَ الإنسانية. وإذا التقى الجميعُ على التغنّي بها في التراث الفكري والأعمال الأدبية، واتفقوا عليها في المواثيقِ والعهودِ، أساساً لحياةِ الأفرادِ والمجتمعات، لطالما اختلفوا على تطبيقِها وقياسِها في الواقِع. وإن تعذر قياس حضورها، فلن يصعبَ تصوير غيابِها، صوراً تتنوع بين عنف وفقر وبطالة وجوع وقلق على المستقبل.  

لقد كانَت العدالةُ الاجتماعيةُ دائماً ملهمةً للمفكرين والشعراء والفنانين. والغريبُ أنهم كتبوا الملاحم عن غيابها، أكثر من حضورها، رسموها في شوارع الفقر والبؤس، في صورة طفل يحرم من المدرسة لأبسط ضروراتِ العيش، في صورة مسنٍ يحرم من الرعاية الصحية، في صورة امرأة حصّلت التعليم وقيل لها يوماً إن مكانَها في المنزل.

الحضور الكريم،
اليوم، إذ اخترنا إحياء يوم العدالة في أعمال جبران، فلأن أعمالَه ثورةُ الامس واليوم، ثورةُ الإنسان في كل عصر وكل مكان، على الفقر والجوع والتمييز، ثورةُ الجمال على الدمار والدخان، ثورةُ الضعف على القوة. فمن ينسى خليل الكافر باحثاً عن قوت والبحث لا يزال اليوم في حرب القرن الحادي والعشرين، من ينسى صورةَ طفلٍ يتسوّل القوت اليومي على قارعة طريق ويستجدي المستقبلَ في الغد القريب، صورٌ لا تزالُ هي اليوم، كما كانت بالأمس وما أقربه إلى اليوم، في الواقع ماثلةً أمامنا في كل شارعٍ ومدينة في عصر البحث عن نماذجَ إنمائية جديدة تحقق للجميع رفاهاً وسلاماً وعيشاً كريماً. من يحسِم السباق؟  
وعبر التاريخ، حلتّ العدالة الاجتماعية عنواناً ثابتاً لبحوثٍ ومواثيقَ، وصداها يتردد غيابا مرة بفعل حروب تمزق بلدانا ومجتمعات، ومرة بفعل احتلال طويل يأسر شعباً سنين طويلة، ومرة بفعل صراعات تلتهم موارد التنمية.  
وكان إعلانُ اليومِ العالمي للعدالة الاجتماعية في عام 2007 بمثابة التزام متجدد من المجتمعِ الدوليّ بقيادةِ الأممِ المتحدة، لعل تلك الرغبةَ القديمةَ تتحوّل إلى ركيزةٍ من ركائزِ التنمية الإنسانية، إلى شرطٍ لا يستقيمُ من دونِه نموٌّ ولا ازدهار، إلى أساسٍ في السياساتِ والخطط، وها هي العدالة اليوم في صلبِ منظومةِ أهدافِ التنمية المستدامة لعام 2030.

الحضور الكريم،
تحيي المنظومةُ الدوليةُ، وضمنَها الإسكوا، يومَ العدالةِ الاجتماعيةِ في كلِّ عام، إيماناً بها قيمة والتزاماً بها واقعاً في العالم، وضمنَه المنطقة العربية. وقد اعتمدتْ الدولُ الأعضاءُ في الإسكوا في دورتها الوزاريّةِ الثامنة والعشرين إعلانَ تونس بشأنِ العدالةِ الاجتماعية، فضمّنته العديد من الالتزامات والتعهدات، وكرست العدالة الاجتماعية رُؤيةً تسترشد بها السياسات والقرارات، وقضيةً تخترِقُ كلَّ المشاريع والخطط الإنمائية، وطريقاً إلى مستقبلٍ يرجوه الجميع يُشرقُ كرامةً وازدهاراً.
نحيي يوم العدالة ومنطقتُنا على ما يشبه السباق، بين إنجازات ونكسات. لقد كرست الدولُ العربيةُ مَبدأ العدالةِ في دساتيرِها ودعمَته بِتَشريعاتٍ لتعْزيزِ الإِنفاقِ على الصحةِ والتعليم، وتوسيع الحماية الاجتماعيةِ بِحَيْثُ تشملُ نِسباً متزايدة من السكان، وأكدت تمسكَها بالعديد من مقومات الحماية والمساواة وشروط العيش الكريم التي تنقل العدالة من حيّز المرتجى إلى حيّز الواقع. 

غير أن ما تَعيشُهُ المنطقةُ من ظروفٍ عصيبةٍ يهددُ بِتَراجُعٍ قد يُطيحِ بما تَحَقَّق. تراجعٌ تعددت أَسبابُه، وقد يكونُ على رأسِها غيابُ العدالةِ الاجتماعيةِ، بِما تعنيهِ من مساواةٍ وإِنصافٍ ومشاركة، واحترامٍ لحقوقِ الإنسان. صراعاتٌ واضطراباتٌ تُلِمُّ بإحدى عشرةَ دولة، وقد سبّبت موجاتٍ واسعةً من الهجرةِ والنزوح، فباتَتْ المنطقةُ موطناً لأكثرِ من نصفِ نازِحِي العالمِ ولاجئيه. فقرٌ مُزمنٌ باتَ يأسرُ ربعَ السكان دونَ خطوطِ الفقرِ الوطنية؛ بطالةٌ بلغَتْ مُعدَّلاتُها بين الشبابِ ضعفَ المتوسطِ العالميّ، ولا سيّما بينَ أصحابِ التحصيلِ العلميّ؛ تدهورٌ بيئي يهدّد سبل العيش ويلحق إجحافٍاً بحق الأجيالِ المقبلة. تحدياتٌ تعوقُ التقدّم على مسارِ التنمية العادلة، وتستلزِمُ منّا تكافُلاً وتضافُراً وعملاً جديّاً على مراجعةِ النهُجِ والسياساتِ الإنمائيةِ، لتأسيسِها على مبادِئِ العدالةِ الاجتماعيةِ ومقوماتها، فالتنمية من غير مساواة تلحِق بأي مجتمع خسائرَ جسيمة قد تفوق على المدى الطويل الخسائرَ الناجمة عن غياب التنمية.

الحضور الكريم،
إنّ غيابَ العدالة الاجتماعية في المنطقةِ العربيةِ، لا بل في العالَم، واقعٌ لا يَحتَمِلُ جدلاً.  والأرقامُ والإحصاءاتُ خيرُ شاهدٍ، إذ يستأثِرُ واحدٌ في المائة من أغنى سكانِ العالمِ بنسبةِ 82 في المائةِ من ثروتِهِ.  ومنذ عام 2010، تتزايدُ ثرواتُ الأغنياءِ بسرعةٍ تفوقُ بستِّ مراتٍ زيادة أجورِ العمالِ، وما يلحق بذلك من عدم استقرارٍ، وحرمانٍ من الحمايةِ الاجتماعيةِ، وضمانِ الشيخوخةِ ومقوّماتِ العيشِ الكريم.
وللمرأةِ حصةٌ كبيرةٌ من الإجحاف الناجم عن اللامساواةِ في مجالات الحياة الخاصة والعامة، في المنزل وسوق العمل، في الاقتصادِ والمجتمعِ والسياسة.

ونحن في الإسكوا، لا نَألو جهداً لدعمِ الدول الأعضاء بالبحوثِ والمشورةِ الفنّيةِ والأدِلَّةِ العلميةِ التي تُساعدُ في صياغَةِ السياساتِ والخطط والنُهُج الاقتصاديةِ والاجتماعيةِ وفقاً لمتطلباتِ العدالة الاجتماعية. وفي اعتمادِ أهدافِ التنمية المستدامة، بمقاصِدِها ومؤشراتِها، تأكيدٌ على خيارِ دول المنطقة الالتزامَ بنَهجٍ إنمائيٍ جديدٍ يستهدفُ جميع أفراد المجتمع وفئاته، ويستثمرُ في الطاقاتِ المحليةِ، ولا يُهمِلُ أحداً.
إنَّ اختيارَنا الاحتفاءَ بالعدالةِ الاجتماعية في أعمالِ جبران خليل جبران، أحدِ أهمّ أعلامِ الأدب المعاصِر، هو عودةٌ إلى العدالةِ كقيمةٍ فكريةٍ وأخلاقيةٍ عابرةٍ لحدودِ الزمانِ والمكان، ربما لنجدَ ما يطمئنُنا أن غيابَها مؤقتٌ، فكمْ مِن مرَّةٍ ضَيَّعتْ الأممُ مسارَ القيم، انشغَلَتْ عَنها، فكانَ أن صوَّبَ الفكرُ والأدبُ المسار. وفي تراثِنا الفكري والأدبي والإنساني الكثيرُ مما يمكن أن ننهَل منه لبناء مجتمعاتٍ منيعةٍ عصيّة على العواصف.

اسمحوا لي في الختام ان أشكرَكم، ضيوفَنا الأعزاء، على مشاركتكم لنا في هذا اليوم وآملُ أن تصبح لقاءات الفكر والأدب بالاقتصاد والسياسة تقليداً لا صدفة، يعيد إلى مجتمعاتِنا تألقَها وازدهارَها. 
شكراً.

الأمين التنفيذي: